تربية الأبناء على أسلوب تحديد الأهداف

 

لكل عمل هدف واضح دقيق قابل للتحقيق والقياس فيما بعد, قال تعالى: "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون" (سورة التوبة: آية 105). والعمل التربوي من باب أولى أن يكون له ذلك التحديد في الأهداف بل والتفصيل فيه. إن تربية الأطفال هي من أهم أولويات الفرد إن لم تكن هي الأهم, قال تعالى: "المال والبنون زينة الحياة الدنيا" (سورة الكهف: آية 46). لكن المشاهد في هذه الحياة أن معظم سلوكنا التربوي مع الأطفال سواء كان ذلك مع أبنائنا أو حتى مع طلبتنا في أحايين كثيرة هو سلوك عفوي بعيد عن التخطيط والتنظيم, رغم أن العملية التربوية يجب أن تكون منضبطة بكثير من المعايير والمبادئ المتعارف عليها. من هنا تأتي أهمية الحديث عن تربية الأبناء على أسلوب تحديد الأهداف. ولكن ذلك لن يتحقق الا بوضوح طبيعة الأهداف التربوية للمربي وللشخص الذي تقع عليه التربية كذلك من أجل امتلاك المقدرة على تحديدها وتصنيفها بحسب أولويتها.

 

عند تحديد الأهداف سواء كانت الحياتية منها أو المتعلقة بجانب من جوانب الشخصية الانسانية لا بد للشخص أن يعرف أن الأهداف تنقسم إلى ثلاثة أنواع. فهي إما أن تكون فردية تتعلق بالأفراد المتعلمين من حيث سلوكهم ونشاطهم وأدائهم على المستوى الشخصي. وإما أن تكون اجتماعية تتعلق بحياة المجتمع وبالسلوك الاجتماعي العام. وإما أن تكون مهنية تتعلق بالتربية والتعليم كمهنة وعلم وفن من الفنون المتعلمة والمتطورة.

 

إن للأهداف التربوية مستويات عدة من مختلف الجوانب. فمن ناحية المدى الزمني فان هناك ثلاثة مستويات لتلك الأهداف. فإما أن تكون قصيرة المدى أو  متوسطة المدى أو بعيدة المدى. أما قصيرة المدى فهي تلك المرتبطة بتعلم معين ضمن فترة قصيرة محددة لا تتجاوز السنة كتعلم بعض من لغة ما أو قراءة مجموعة من الكتب أو نحو ذلك. وأما متوسطة المدى فهي ما بين السنة والخمس سنوات كإتقان لغة ما أو قراءة سلسلة من العلوم أو نحوها. وأما الطويلة الأمد فهي ما كان أكثر من خمس سنوات وهي تلك المرتبطة بأهداف الحياة الكبرى وما يؤول إليه الفرد في المستقبل كأن يكون للفرد تميز في علم من العلوم يستطيع من خلاله أن يفيد به المجتمع والأمة.

 

ومن هنا فان على المربي أن يوضح للابن المتلقي أن مسئوليته تكمن في تحديد الأهداف على مختلف المستويات. لا بد لكل شخص عند تخطيطه لمستقبله أن يتدرج في وضع أهدافه. وبذلك يبدأ بتحديد أهداف يمكنه أن يحققها في وقت قصير فيضمن بذلك نجاحه وتحفيزه فيما بعد لتخطيط ما هو أبعد من ذلك. ثم عليه أن يخطط لعدة سنوات حتى يصل لتحديد الهدف الأشمل الذي يعطي لحياته المعنى الحقيقي الذي ينبغي. ويكون ذلك بتوضيح مباشر من أولي الأمر ومتابعة حثيثة منه. كم من آبائنا ومربينا يساعد أبناءهم على كتابة خطة مستقبلهم بأهدافها المتنوعة ويتابعونهم بناء عليها. إنها مسئولية كبيرة تقع على عاتق الآباء والمربين كي يتمكنوا من تدريب أبنائهم على هذا الأسلوب الفعال في تحديد الأهداف.

 

تقع هذه المسئولية كذلك على الآباء والمربين في توضيح ماهية الأهداف التربوية التي يرون ضرورة تحديدها من قبل الآباء. فلا بد من توضيح أهمية الأهداف المعرفية المتعلقة بعلم من العلوم أو إدراك مفهوم أو معرفة من المعارف للأبناء. وهذا النوع من الأهداف هو الذي يساعد في تشكيل منهجية الإدراك عند الأفراد. ولا بد للأبناء أن يتعرفوا على أسلوب الأهداف السلوكية وهي التي تركز على مجموعة السلوكيات والتصرفات التي ينتهجها الفرد من خلال منظومة قيمية وأخلاقية مستمدة من الدين ومؤيدة من المجتمع في الغالب. وهذه هي الوجه الأبرز للفرد كونه سهل الملاحظة كتلك السلوكيات المتعلقة بطرق التعامل مع الآخرين. أما الأهداف المهارية فهي تلك التي تركز على إكساب الفرد مجموعة من المهارات التي تعينه على إعداد نفسه كي يكون ناجحا في حياته كتلك المتعلقة بتعلم مهارة استخدام الحاسوب ومهارات الحوار والإقناع وحل المشكلات والتواصل والإدارة والقيادة وغيرها.

 

ثم إن على الآباء والمربين أن يفهموا أبناءهم عند تحديد أهدافهم أن يكون هذا التحديد شاملا لجميع جوانب الشخصية الانسانية. فهناك أهداف تركز على الجانب الايماني كتقوية القوى الروحية وهي تلك القوى الكامنة في شخصية الفرد والتي تحركه نحو البحث عن قضايا غيبية دينية للسمو بالذات والصعود في معارج العالم العلوي. ويتمثل تطبيق ذلك بالعلاقة بين الإنسان والدين ومنها: سلوك الإنسان في البحث عن الله, وتوحيد الله والإيمان به, وعبادة الله, والتأمل في الذات الإلهية وصفاتها, وتقوى الله. وهناك من الأهداف ما يركز على القوى العقلية والادراكية متمثلة في إمكانيات العقل, وقدرته على التفكير, واكتساب المعرفة, وتعلم المفاهيم, ووعي المدلولات وفهم المعاني, وحل المشكلات, والتبصر والتأمل والتفكير والتذكر, والتخيل والتوقع والربط ومعالجة المعلومات. ويمكن للمربين تطبيق ذلك من خلال تنظيم وتفعيل خصائص القوى العقلية والادراكية, وتنمية التفكير المنهجي في تقدم المجتمع, وتشكيل دوافع ادراكية نحو الإنسان والمجتمع, وتشكيل اتجاهات عقلية نحو قبول التغير والتكيف مع الواقع الاجتماعي, ودور الإنسان في إنماء الثقافة والعلم والمجتمع, والنهوض بدور العقل والتفكير في الحياة الإنسانية, وتشجيع الإبداعات الفكرية في مواجهة المشكلات والتحديات.

 

إن على الأبناء كذلك أن ينتبهوا للأهداف التي تركز على القوى الوجدانية والانفعالية. وهي تلك القوى التي تتحكم في السلوك الداخلي الوجداني للفرد, وجعله متسقا مع السياق الايجابي للنسق القيمي العام في اطار السلوكيات الانفعالية والمتمثلة بالاتجاهات والمواقف والمشاعر والاستجابات القيمية وصور التوافق والتذوق. وعلى المربين في هذا الاطار أن ينتبهوا لسلوك الأفراد عند الاستقبال والانتباه للظواهر, وسلوك الوعي للبيئة, والاستجابة الفاعلة والاهتمام, والمسايرة للقواعد, والرغبة في الاستجابة والموافقة, وتقدير الأشياء, وتقبل قيمة شيء ما, والالتزام بالمواقف والأفكار, وتنظيم القيم في منظومة معينة. وهناك كذلك الأهداف التي تولي أهمية كبيرة للقوى الاجتماعية. وهي تلك القوى التي تجعل من الطفل انسانا اجتماعيا يستجيب لمن حوله من الآخرين, عن طريق الاستجابات الاجتماعية في أثناء مراحل نموه وتطور شخصيته. ويتمثل ذلك في تطوير شعور الثقة بالنفس والآخرين, وشعور الاستقلال والتغلب على مشاعر الخجل, وتطوير شعور المبادأة والتغلب على الشعور بالذنب, وتطوير شعور العمل والمواظبة والتغلب على شعور النقص والدونية, وتطوير الشعور بالهوية والانتماء.

 

وبعد أن يتم تدريب الأبناء على تحديد أهدافهم على النحو السابق لا بد أن لا ينسى الجانب المتعلق بالقوى الجسمية وهي تلك الامكانات والقوى العضوية الفطرية التي أودعها الله الخالق في جسم الانسان, كالجهاز العصبي والعضلي وما فيه من آليات الحواس (السمع والبصر واللمس والشم والذوق). ويمكن للمربين أن ينتبهوا لذلك من خلال تنمية القدرة على السمع (التمييز السمعي) والابصار واللمس والشم والذوق, والثبات والقوة والمرونة والرشاقة والتوازن والتنظيم, والحركات الأساسية كالقفز والجري وامساك الأشياء وأداء الحركات التعبيرية (ايماءات وتعبيرات), والحركات التفسيرية الجمالية والابتكارية (الخوالدة: 2003).

 

بعد هذا التفصيل في الأهداف التي يجب أن ندرب أبناءنا عليها بمختلف مستوياتها, لا بد من التأكيد أن على المربين أن ينتبهوا لتلك الأهداف السامية للتربية كتحقيق الذات لدى الفرد. ويقصد به اثبات الوجود بقوة في شتى المجالات الإيمانية, والعقلية, والوجدانية, والاجتماعية, والجسمية. أي أنه يترتب على المربي في هذا الصدد أن يشبع حاجات الفرد في المجالات المذكورة بطريقة منطقية شاملة متوازنة بحيث يغرس في نفسه الثقة والاطمئنان أنه عنصر فعال في المجتمع والأمة. ناهيك عن واجب المربي أن يوجه أبناءه على السعي لتحقيق مثل هذا الهدف السامي. وهذه النظرة تصب في طريق من قال أن الهدف الأسمى من التربية هو النمو الشامل للشخصية الانسانية فيما ذكر من مجالات محددة. وهناك من نظر الى أن الهدف الأسمى للتربية هو اعداد الانسان الصالح في نفسه والقادر على أن ينقل هذا الصلاح الى مجتمعه وأمته.

 

بذلك على كل مرب أن يتمعن في دوره الكبير لتدريب الأبناء على تحديد أهدافهم الحياتية بمختلف أنواعها ومستوياتها كي يتم مراعاتها عند القيام بالعملية التربوية. وأؤكد في هذا المقام على أن عملية مراعاة هذه الأهداف يجب أن تكون بطريقة واعية ومنهجية وعلمية مخطط لها, إن على مستوى الآباء أو مستوى المعلمين. كم من الآباء يجلسون ليخططوا لأبنائهم وفق برنامج زمني يعتمد على مجموعة من الأهداف التربوية المتنوعة, أو أنهم على الأقل يوجهوا أبناءهم ويدربوهم على التخطيط لمثل هذا المستوى من التفكير. ولا أشترط بالتخطيط هنا أن يكون مكتوبا ولكن ينبغي أن يكون واعيا ومقصودا. وأعتقد أن مثل هذه المنهجية ستصنع شخصية سوية وفق المعايير المطلوبة لمثل ذلك.

 

مراجع مقترحة:

  • ادارة الأسرة: الأسرة أهم مؤسسة في الحياة, غسان بن عبد العزيز القين, بيروت: دار المعرفة, 2006.
  • أهداف التربية الإسلامية وغايتها, مقداد يالجن, الرياض: د. ن., 1986.
  • أهداف التربية الإسلامية: دراسة مقارنة بين أهداف التربية الإسلامية وأهداف التربية المعاصرة, ماجد عرسان الكيلاني, المدينة المنورة: مكتبة دار التراث, 1988.
  • الأهداف السلوكية في التربية الإسلامية: صياغتها وتقويمها, عبد الرحمن صالح, القاهرة: دار الفكر العربي, 2003.
  • تربية الأولاد في الإسلام, عبد الله ناصح علوان, حلب: دار السلام, 1981.
  • فلسفة التربية الإسلامية, عمر التومي الشيباني, ليبيا: الدار العربية للكتاب, 1988.
  • مقدمة في التربية, محمد محمود الخوالدة, عمان: دار المسيرة, 2003